صمود غزة: أسطورة العصر
بقلم الكاتب السياسي والمؤرخ الفلسطيني د.ابراهيم فؤاد عباس
بداية لابد من الإقرار بأنني أؤمن بأن المقاومة المسلحة ضد المحتل الغاصب حق غير قابل للتشكيك أو النقاش، كونه حق إلهي قبل أن يكون بشري، وهو حق أكدته شريعة الأمم المتحدة والقانون الدولي، ومنطقيًا فإن العناصر التي تقاوم المحتل لا يمكن أن توصف بأنها عناصر إرهابية، والأجدر أن يوصف المحتل بأنه هو الإرهابي، وينطبق الوصف أيضًا على من يدعم هذا المحتل، خاصة عندما يستخدم المحتل القوة الغاشمة والأسلحة الفتاكة في الإبادة الجماعية لشعب شبه أعزل ليس لديه جيشًا ولا طائرات ولا دبابات ولا سفن حربية، وإنما بعض الأسلحة التي لا يمكن مقارنتها بأي شكل من الأشكال بالترسانة المسلحة للمحتل الذي هو إسرائيل، والذي يمارس مذابحه منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرن مستهدفًا بشكل خاص الأطفال والنساء، والمباني السكنية والبنية التحتية والمدارس والمستشفيات ودور العبادة،
ويقتل عشرات آلاف الضحايا نسفًا وحرقًا وذبحًا وتنكيلاً في مشاهد تقشعر لها الأبدان. ولابد من وقفة أمام ما وصفته بعض أجهزة الدعاية الغربية وغير الغربية في السابع من أكتوبر 2023 – عندما قامت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بهجمتها على مدن غلاف غزة وأوقعت مئات القتلى والجرحى وعشرات الأسرى- بأنه عمل إرهابي، بينما هو في الواقع لا يمثل واحد من ألف من العمليات الإرهابية والمذابح الصهيونية التي تشنها المنظمات الإرهابية الصهيونية وجيش الدفاع الإسرائيلي والمستوطنين على الشعب الفلسطيني على مدى أكثر من مائة عام. بيد أنه يمكن القول دون أدنى مواربة بأن رد الفعل الإسرائيلي البالغ الوحشية والعنف ضد أهالي غزة جاء دليلاً آخر على أن إسرائيل دولة إبادة جماعية، وأنها دولة إرهابية بلا منازع، وهو ما تمثل في ردود الفعل الدولية، حيث عمت الاحتجاجات الشعبية دول أوروبا والولايات المتحدة، والتي رفعت شعارات الرفض والإدانة للعدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، وقامت عدة دول أوروبية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، فيما قطعت العديد من دول أمريكا اللاتينية علاقاتها بإسرائيل، واتخذت الجنائية الدولية لأول مرة موقفًا شاجبًا وإدانة صريحة ضد إسرائيل.
اليوم بعد مضي أكثر من عام على العدوان الإسرائيلي الشرس على مدن القطاع تتضح أمامنا الحقائق الآتية:
– التضحية التي قدمها أهالي القطاع وصمودهم البطولي أمام وحشية الجيش الإسرائيلي يثبت أن شعب بهذه المواصفات لا يمكن أن يبيع أرضه أو أن يتخلى عن حقوقه الثابتة.
– سقوط أكثر من 40 ألف شهيد خلال عام من العدوان المتواصل على قطاع غزة وتدمير أكثر من 75% من المباني السكنية والمدارس والمستشفيات ودور العبادة والآثار لا يمكن وصفه بأنه نتيجة عمل غير مدروس قامت به المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023، ، فهذا العدوان هو الخامس من نوعه في سلسلة الحروب الإسرائيلية على القطاع، وإسرائيل كانت عازمة على القيام به سواء قامت المقاومة الغزاوية بهجمتها في السابع من أكتوبر 2023 أو لم تقم بتلك الهجمات، حيث لم تعد إسرائيل تخفي أهدافها في إعادة بناء المستوطنات في غزة، وأطماعها في غاز غزة ، وفي تطلعاتها نحو حفر قناة بن جوريون التي تخطط لتكون منافسة لقناة السويس. ولنتذكر دائمًا أن مقاومة العدوان والاحتلال يتطلب فاتورة باهظة الثمن بلغت في الجزائر مليون ونصف شهيد، وفي فيتنام أكثر من ثلاثة ملايين نسمة. وفلسطين والأقصى تستحق تضحية أكثر.
– كان السابع من أكتوبر نقطة تحول في مسار القضية الفلسطينية، فقد أعاد الروح للقضية، ورسم أمام العالم صورة واضحة لإسرائيل كدولة أبارتاهيد ودولة إبادة جماعية، وأنصف الفلسطينيين كشعب صامد يدافع عن قضيته العادلة وحقوقه المشروعة. وعلى مدى عام كامل من العمليات القتالية الإسرائيلية الجوية والبرية، نجحت إسرائيل في تهجير أكثر من 80% من أهالي القطاع، وتدمير بنيته التحتية، وأكثر من 75% من المباني السكنية والمنشآت والمؤسسات المدنية، منها 204 مقرات حكومية، و125 مدرسة وجامعة دمرها الاحتلال بشكل كلي، و337 مدرسة دمرها الاحتلال بشكل جزئي، و814 مسجدًا دمرها الاحتلال بشكل كلي، و148 مسجدًا دمرها الاحتلال بشكل جزئي، و3 كنائس، و19 مقبرة. وخلال ذلك العام أسقطت إسرائيل سبعين ألف طن من القنابل، وهو ما يتجاوز الوزن الإجمالي للقنابل التي سقطت على لندن ودريسدن وهامبورغ خلال الحرب العالمية الثانية، وارتكبت 3654 مجزرة وقتلت 51870 شهيدًا ومفقودًا وجرح مائة ألف من المدنيين، غالبيتهم من النساء والأطفال، كما نجحت في اغتيال قائدي حماس إسماعيل هنية وبشير السنوار.
نجحت إسرائيل في تحقيق ذلك كله، لكنها لم تنجح في كسر إرادة أهالي غزة في المقاومة والصمود، ولم تعد إسرائيل قريبة من هزيمة حماس، بل أصبحت حماس اليوم – كما ذكر روبرت باب في مجلة “فورين أفيرز” في مقال له في 21 يونيو 2024 بعنوان “حماس تنتصر” – أقوى مما كانت عليه في السابع من أكتوبر. و”باب” هذا، هو نفسه الذي وصف حرب إسرائيل على غزة بأنها “الحرب الأكثر تدميرًا في التاريخ”.
وإسرائيل لم تفشل في حربها على غزة التي تعتبر الأطول في تاريخ صراعها مع العرب بشكل عام والفلسطينيين بشكل خاص، والتي تحولت إلى حرب استنزاف بعد مضي عام من اندلاعها لأنها لم تنجح في تحقيق أي من أهدافها الثلاثة من قيامها بهذه الحرب، وإنما أيضًا لأنها لا– وما زالت- تنعم ليوم واحد بالأمن طيلة ذلك العام. وقد تراجعت إسرائيل، من خلال خطة الجنرالات، في التنازل عن هدفها الأول من شنها الحرب الخامسة على غزة، وهو القضاء على حماس، بعد أن أدركت استحالة تحقيقها لهذا الهدف، إلى الحيلولة دون تمكين حماس من إدارة القطاع.
واليوم بعد مرور أكثر من عام على العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، تبدو إسرائيل عاجزة عن تحقيق انتصار على المقاومة الفلسطينية، وحسب موقع “ميدل إيست آي” قال مسؤولون عسكريون إسرائيليون سابقون وحاليون إنهم يخسرون الحرب على غزة بينما تنتصر حماس. وعلى الرغم من أن إسرائيل لها اليد العليا على المستوى التكتيكي، إلا أنها لا تزال غير قادرة على هزيمة المجموعة الفلسطينية، وفقًا لما ذكره ذلك الموقع على لسان للواء جادي شامني، القائد السابق لفرقة غزة العسكرية الإسرائيلية. وفي مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز”، قال شامني إن حماس “تربح الحرب، بينما تخسر إسرائيل وبشكل كبير”.
ومن جهة أخرى، عرت حرب الإبادة الجماعية التي ما زالت إسرائيل تشنها على غزة صورة الولايات المتحدة وأظهرتها بمظهرها الحقيقي باعتبارها الدولة الإرهابية الأولى في العالم – على حد وصف المفكر اليهودي الأمريكي المعروف ناحوم تشومسكي- تدعم إسرائيل معنويًا وسياسيًا وعسكريًا واستعماريًا ضد الشعب الفلسطيني الذي تقف حجر عثرة في طريقه لنيل حرياته وحقوقه المشروعة. ولنتذكر دائمًا أن الإدارة الأمريكية التي تطالب إسرائيل بإدخال المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني المحاصر والذي يعاني من المجاعة هي نفسها الدولة التي تزود إسرائيل بالقنابل زنة ألفين رطل، وهي التي تحمي أجوائه بالقبة الحديدية.
العزاء الوحيد لأهالي غزة في مأساتهم الإنسانية المريرة أن كافة شعوب العالم الحر تشعر بآلامهم وتتعاطف معهم وتتظاهر بشكل يومي دعمًا لصمودهم الأسطوري غير المسبوق في تاريخ العالم